الاستِقْلالِـيَّةُ الفِكْرِيَّةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَرشَدَهُ بِالوَحْيِ الحَكِيمِ، وَزَوَّدَهُ عَقْلاً وَفِكْرًا يَهْدِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ القَوِيمِ، سُبْحَانَهُ أَوْضَحَ لِبَنِي البَشَرِ مَبْدَأَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى سُلُوكِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَرَعَ مِنَ الدِّينِ مَا يَدْعُو إِلَى استِقْلالِ الفِكْرِ وَإِعْمَالِ العَقْلِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، نَهَى عَنِ التَّبَعِيَّةِ العَمْيَاءِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الجَزَاءِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَـ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ( )، ثُمَّ اشْكُرُوهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْ خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَفَطَرَكُمْ عَلَى الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ، وَزَوَّدَكُمُ العُقُولَ بِهَا تَستَهْدُونَ، وَفِي خَلْقِ اللهِ بِهَا تَتَفَكَّرُونَ، وَبِهَا فِي طَرِيقِ حَيَاتِكُمْ تَستَنِيرُونَ، يَقُولُ عَزَّ قَائِلاً حَكِيمًا: ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ( )، إِنَّ هَذِهِ الحَوَاسَّ وَالمَلَكَاتِ إِنَّمَا وَهَبَنَا اللهُ إِيَّاهَا لِنَغتَنِمَهَا مِنْ أَجلِ حَيَاةٍ أَفْضَلَ، وَطَرِيقٍ أَمثَلَ، وَقَدْ نَعَى القُرآنُ الكَرِيمُ عَلَى الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ حَوَاسَّهُمْ وَعُقُولَهُمْ أَمْرَهُمْ هَذَا، فَقَالَ: ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ( )، وَلِذَا استَنْهَضَ الإِسْلامُ العُقُولَ، وَوَجَّهَ الأَفْهَامَ، وَأَيقَظَ الحَوَاسَّ، وَنَبَّهَ المَشَاعِرَ، وَحَرَّرَ الإِنْسَانَ مِنْ أَغْلالِ التَّقْلِيدِ، وَسَيْطَرَةِ التَّبَعِيَّةِ العَمْيَاءِ، وَرَبَّاهُ عَلَى حُرِّيَّةِ الفِكْرِ، وَاستِقْلالِ الإِرَادَةِ، لِيَكْمُلَ بِذَلِكَ عَقْلُهُ، وَيَستَقِيمَ تَفْكِيرُهُ، وَتَكْتَمِلَ لَهُ شَخْصِيَّـتُهُ وَإِنْسَانِيَّـتُهُ، فَإِنَّ كَمَالَ العَقْلِ، وَسَلامَةَ التَّفْكِيرِ، وَاستِقْلالَ الإِرَادَةِ، هِيَ أُسُسُ صِحَّةِ الأَفْكَارِ، وَاستِقَامَةِ السُّلُوكِ، وَرُقِيِّ الأَخْلاقِ، وَمَعْرِفَةِ الحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، وَمَعْرِفَةِ البَاطِلِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُجتَنَبَ، وَفِي الأَثَرِ: ((مَا اكْتَسَبَ رَجُلٌ مِثْلَ عَقْلٍ، يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى هُدًى، وَيَرُدُّهُ عَنْ ضَلالٍ))، إِنَّ عَالَمَ اليَوْمِ لَيَمُوجُ بِأَفْكَارٍ وَثَقَافَاتٍ مُختَلِفَةٍ، وَحَضَارَاتٍ وَاتِّجَاهَاتٍ مُتَدَاخِلَةٍ، بِفِعْلِ الانْفِتَاحِ الثَّقَافِيِّ، وَتَعَدُّدِ الوَسَائِلِ الإِعْلامِيَّةِ، وَسُهُولَةِ الاتِّصَالِ وَالتَّوَاصُلِ، وَهَذَا يَجْعَلُ الطُّرُقَ أَمَامَ الإِنْسَانِ مُتَشَعِّـبَةً، وَالأَفْكَارَ وَالرُّؤَى مُتَبَايِنَةً، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَنَا طَرِيقَ الإِيْمَانِ وَالهِدَايَةِ، وَتِلْكَ حِكْمَةٌ مِنَ اللهِ؛ لِيَخْتَارَ الإِنْسَانُ دَرْبَهُ، وَيَتَحَمَّـلَ مَسْؤُولِيَّةَ اتِّجَاهِهِ، وَإِنَّ العَاقِلَ هُوَ مَنْ يَتَّخِذُ الدَّرْبَ الَّتِي يَرَى فِيهَا مَصلَحَتَهُ الحَقِيقِيَّـةَ، وَمَا يُحَقِّقُ لَهُ الحَيَاةَ الطَّيِّـبَةَ، وَيَكْفُلُ لِمُجتَمَعِهِ الأَمْنَ وَالسَّلامَ، وَيَأْمُلُ فِيهِ لأُمَّـتِهِ وَوَطَنِهِ الخَيْرَ وَالتَّقَدُّمَ إِلَى الأَمَامِ، فَكَيْفَ يُكْتَبُ لَهُ النَّجَاحُ؟ وَكَيْفَ يَجتَازُ الامتِحَانَ؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الفِكْرِ السَّلِيمِ مَا يَهتَدِي بِهِ، وَمِنَ الاستِقْلالِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ مَا يُحَدِّدُ لَهُ الدَّرْبَ السَّوِيَّ؟
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدْ حَذَّرَ الإِسْلامُ الحَنِيفُ مِنَ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ( )، إِنَّ مَسلَكَ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى يَنْفِي احتِرَامَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، وَتَقْدِيرَ الذَّاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، فَالمُقَلِّدُ يُعَطِّلُ عَقْلَهُ الَّذِي وَهَبَهُ اللهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ يَذُوبُ فِي شَخْصِيَّاتِ الآخَرِينَ وَأَفْكَارِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الإِمَّعَةُ الَّذِي لا هُوِيَّةَ لَهُ وَلا شَخْصِيَّةَ، يَقُولُ المُصْطَفَى : ((لا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً؛ يَقُولُ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ وَإِنْ أَسَاؤُوا أَسَأْتُ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلا تَظْلِمُوا))، فَمَا بَالُ بَعْضِ النَّاسِ يَتَّخِذُونَ التَّقْلِيدَ لَهُمْ مَنْهَجًا، وَالتَّبَعِيَّةَ طَرِيقًا وَمَسلَكًا؟ أَمَا يَرْغَبُونَ فِي استِقْلالِ شَخْصِيَّاتِهِمْ؟ أَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِيَانُهُمْ وَإِبْدَاعُهُمْ؟ لِمَاذَا يُعَطِّلُونَ عُقُولَهُمْ وَيَدفِنُونَ قُدُرَاتِهِمْ؟ وَإِنْ شِئْنَا لَهُمُ اللَّومَ وَالعِتَابَ، فَإِنَّا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ وَرَاءَ مَسلَكِهِمْ دَوَاعِيَ وَأَسْبَابًا، وَمِنْ بَينِهَا الفَرَاغُ، وَغِيَابُ القُدْوَةِ، وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ تَعْرِفُ حَيَاةُ المُؤْمِنِ طَرِيقَ الفَرَاغِ، وَإِيْمَانُهُ يَدْعُوهُ إِلَى اغْتِنَامِ أَوقَاتِهِ، وَتَنْمِيَةِ أَفْكَارِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَستَسِيغُ المُوَاطِنُ الصَّالِحُ أَنْ يَبقَى بِلا عَمَلٍ وَقَدْ فُتِحَتْ لَهُ آفَاقُهُ وَمَجَالاتُهُ؟ إِنَّ الشَّابَّ الوَاعِيَ حِينَ يَعْرِفُ قِيمَةَ الحَيَاةِ، وَيُدْرِكُ قِصَرَهَا وَسُرْعَةَ انقِضَائِهَا، لا يَرتَضِي لِنَفْسِهِ أَنْ تَذْهَبَ أَوقَاتُهُ هَدْرًا، وَسَاعَاتُهُ سُدًى، حَتَّى لا يَفْتَرِسَهُ الفَرَاغُ، وَتَأْكُلَهُ الهُمُومُ، وَتُسَيْطِرَ عَلَيْهِ الوَسَاوِسُ، وَتُحِيطَ بِهِ الظُّنُونُ، ثُمَّ يَبْحَثَ عَنْ مُتَنَفَّسٍ وَمَخْرَجٍ، فَيَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي مُخْتَلَفِ الطُّرُقِ وَالدُّرُوبِ، يُجَرِّبُ المَسَالِكَ، وَيَتَشَرَّبُ أَنْوَاعَ الأَفْكَارِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى هَدَفٍ يَرْجُو مِنْ وَرَائِهِ النَّفْعَ لَهُ وَلأُمَّـتِهِ، وَيَسْعَى إِلَيْهِ عَلَى وَفْقِ خُطَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَدَرْبٍ مَرْسُومٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ المُؤْمِنَ وَهُوَ يَسْعَى إِلَى فِكْرٍ مُتَّزِنٍ مُستَقِلٍّ، يُدْرِكُ تَمَامَ الإِدْرَاكِ أَنَّ العِلْمَ مِفْتَاحُ استِقْلالِ الفِكْرِ وَاتِّزَانِ التَّصَوُّرِ، فَالجَاهِلُ مُضْطَرٌّ إِلَى التَّقْلِيدِ، مُفْتَقِرٌ إِلَى الاتِّباعِ الدَّائمِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ مَا يُوَضِّحُ لَهُ السَّبِيلَ وَيَهْدِيهِ الطَّرِيقَ، وَلِذَا نَجِدُ القُرآنَ الكَرِيمَ يَجْعَلُ أَهلَ العِلْمِ هُمْ أَهلَ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالوَحْدَانِيَّةِ، إِذْ هُمْ أَبْصَرُ بِالدَّرْبِ السَّوِيِّ، وَهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الاتِّزَانِ وَالاستِقْلالِيَّةِ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ( )، إِنَّ الرَّجُلَ الوَاعِيَ يَسْعَى إِلَى المَعلُومَةِ مِنْ مَصَادِرِها، وَيَطْلُبُ العِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ، يَأْخُذُ مَسَائِلَ الدِّينِ مِنَ العَالِمِينَ بِهِ، وَالتَّعلِيمَاتِ الصِّحِّـيَّةَ مِنْ أَهلِ الطِّبِّ، وَقَضَايَا المَالِ مِنْ أَهلِ الاقْتِصَادِ حَتَّى يُكَوِّنَ لَهُ حَصِيلَةً عِلْمِيَّةً، وَرَصِيدًا ثَقَافِيًّا، يُكْسِبُهُ استِقْلالاً فِي الفِكْرِ، وَيَمنَحُهُ ثِقَةً بِالنَّفْسِ تَحُولُ دُونَ اتِّبَاعِ سَرَابِ الشِّعَارَاتِ، فَتَجِدُهُ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ فِي مُخْتَلَفِ الأَحْوَالِ، وَيَستَطِيعُ اتِّخَاذَ قَرَارِهِ فِي أَحلَكِ الظُّرُوفِ وَالمَوَاقِفِ، وَهَذَا شَأْنُ المَشْيِ السَّوِيِّ، وَالدَّرْبِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّخَبُّطِ بَوْنٌ شَاسِعٌ، وَأَنْتُمْ تَقْرَؤُونَ فِي كِتَابِ اللهِ قَولَ البَارِي جَلَّ فِي عُلاهُ: ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ( )، نَعَمْ، تَجِدُ صَاحِبَ العِلْمِ مُستَقِلَّ الفِكْرِ، وَاثِقَ الخُطَى، لا يَكْتَرِثُ لِلأَرَاجِيفِ، وَلا يَلْتَفِتُ إِلى الشَّائِعَاتِ، لا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَسَلُ المُتَخَاذِلِينَ، وَلا حَمَاسَةُ المُنْدَفِعِينَ، وَلا غُلُوُّ المُتَنَطِّعِينَ، إِنَّمَا هُوَ فُرْدٌ مِنْ أُمَّةٍ جَعَلَهَا اللهُ وَسَطًا فِي أُمُورِهَا، وَأَمَرَهَا بِالرِّفْقِ فِي تَعَامُلاتِهَا، يَضَعُ نُصْبَ عَينَيْهِ قَولَ النَّبِيِّ : ((إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ))، وَيَستَضِيءُ فِي اجتِهَادِهِ وَهِمَّـتِهِ بِهَدْيِ المُصْطَفَى - صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلامُهُ عَلَيْهِ - حِيْنَ قَالَ: ((استَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجِزْ)).
إِخْوَةَ الإِيْمَانِ:
إِنَّ استِقْلالِيَّةَ الفِكْرِ لا تَعْنِي أَنْ يَركَبَ المَرْءُ هَوَاهُ، أَوْ أَنْ يَجْعَلَ عَقْلَهُ حَكَمًا فِي كُلِّ أَمْرٍ، فَإِنَّ العَقْلَ البَشَرِيَّ يَظَلُّ قَاصِرًا، وَالأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ، وَالرُّؤَى وَالتَّصَوُّرَاتِ تَخْتَلِفُ، وَلَوْ تُرِكَتِ الأَحْكَامُ لِلْعُقُولِ وَالأَفْهَامِ، لَتَخَبَّطَ النَّاسُ كُلٌّ عَلَى تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ، وَمَا نَزَلَتْ شَرَائِعُ، وَلا سُنَّتْ قَوَانِينُ، وَإِنَّمَا العَقْلُ دَلِيلٌ إِلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَاقْتِفَاءِ الصَّوَابِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَبَيْنَ القَولِ الثَّابِتِ وَمَا عَدَاهُ مِنْ شَائِعَاتٍ وَأَبَاطِيلَ، وَبَيْنَ اتِّبَاعِ الهَوَى وَالعَمَلِ وَفْقَ الأَنْظِمَةِ الَّتِي مَا شُرِعَتْ إِلاَّ لِلْمَصلَحَةِ وَالمَنْفَعَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ( ).
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَاجْعَلُوا عُقُولَكُمْ قَائِدًا نَحْوَ الحَقِيقَةِ وَالصَّوَابِ، نَائِيًا بِكُمْ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ شَكٌّ وَارتِيَابٌ، وَاربَؤُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مَزَالِقِ الهَوَى، أَوِ اتِّبَاعِ الشَّائِعَاتِ، وَعَلَيْكُمْ بِالعِلْمِ وَالتَّبَصُّرِ، فَإِنَّ المُؤْمِنَ الحَقَّ لا تَغُرُّهُ المَظَاهِرُ وَالشِّعَارَاتُ، إِنَّمَا غَايَتُهُ الجَوْهَرُ وَالمَضْمُونُ، وَمَا فِيهِ الخَيْرُ وَالمَنْفَعَةُ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِ وَتَرَسَّمَ خُطَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ:
مَا أَرْوَعَ أَنْ نَرَى أَبنَاءَنَا أَصْحَابَ فِكْرٍ مُستَقِلٍّ، وَتَصَوُّرَاتٍ مُتَّزِنَةٍ، يَمشُونَ ثَابِتِي الخَطَواتِ، بَعِيدِي العَثَرَاتِ، وَهَنِيئًا لِوَطَنٍ عَزِيزٍ يَجِدُ شَبَابَهُ اتَّخَذُوا مَسلَكًا وَاضِحًا، وَدَرْبًا سَوِيًّا بَيِّنًا، فَيَضَعُ فِيهِمْ رَجَاءَهُ، وَيَحُطُّ عِنْدَهُمْ رِحَالَ آمَالِهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الكَلامِ؟ وَهَلْ يُبنَى الإِنْسَانُ بِالآمَالِ وَالأَحْلامِ؟ كَلا وَمَا ذَاكَ بِخَافٍ عَلَيكُمْ، وَقَدْ قَرَأْتُمْ قَولَ الحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ( )، نَعَمْ فَالهِدَايَةُ وَالتَّوفِيقُ مَنَاطُهُمَا الاجتِهَادُ وَالتَّضْحِيَةُ، وَلا بُدَّ مِنْ تَضَافُرِ الجُهُودِ، حَتَّى يُؤْتِيَ الثَّمَرَةَ المَجْهُودُ، بَدْءًا بِالتَّنْشِئَةِ الأُسْرِيَّةِ السَّوِيَّةِ، فَهِيَ عِمَادُ الاستِقْلالِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ، فَالطِّفلُ يُولَدُ فِينَا صَفْحَةً بَيْضَاءَ نَاصِعَةً، تَنْتَظِرُ مَنْ يَخُطُّ بَيْنَ جَنَبَاتِهَا الأَفْكَارَ السَّـلِيمَةَ، وَالتَّصَوُّرَاتِ الصَّحِيحَةَ، وَهَذِهِ مَسْؤُولِيَّةٌ وَأَمَانَةٌ فِي عُنُقِ أُسْرَتِهِ بِالدَّرَجَةِ الأُولَى، فَأَكْرِمْ بِأَبٍ وَأُمٍّ جَعَلا لأَوْلادِهِمَا نَصِيبًا وَافِرًا مِنْ جُهْدِهِمَا، وَضَحَّيَا لَهُمْ بِجُزْءٍ مِنْ وَقْتِهِمَا، فَيَجِدُ الأَوْلادُ مَنْ يُحَاوِرُهُمْ وَيُنَاقِشُهُمْ، وَيُتَابِعُ أَفْكَارَهُمْ، وَنَظْرَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ، وَتَطَلُّعَاتِهِمْ وَآمَالَهُمْ، وَيَنْظُرُ فِي أُسْوَتِهِمْ، بَلْ يَكُونُ هُوَ قُدْوَتَهُمْ، بِالمُسَارَعَةِ إِلَى البِرِّ، وَالسَّبْـقِ إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ المَنْفَعَةُ وَالخَيْرُ، حَتَّى يُصَدِّقَ القَولَ العَمَلُ، وَيَرَوا فِي شَخْصِيَّةِ أَبِيهِمْ وَنَجَاحِ أُمِّهِمْ مَا يُشَجِّعُهُمْ عَلَى الاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي، وَإِلاَّ دَفَعَتْهُمُ الحَاجَةُ إِلَى الأُسْوَةِ وَالقُدْوَةِ، إِلَى التَّقْلِيدِ الأَعْمَى، فَيَنْشَؤُونَ عَلَى التَّشَتُّتِ وَالتَّخَبُّطِ، يَحْمِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِكْرَةً جَدِيدَةً، ثُمَّ يُلْقَى عَلَيْهِمُ اللَّوْمُ وَالعِتَابُ: كَيْفَ تَشَرَّبْـتُمْ هَذِهِ الأَفْكَارَ؟ فَهَلاَّ أَدْرَكَ الآبَاءُ عِظَمَ هَذِهِ الأَمَانَةِ، وَهَلاَّ أَعَانَهُمْ فِي ذَلِكَ بَاقِي المُرَبِّينَ، فِي المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ مَسْؤُولِيَّةُ الجَمِيعِ، لِتَعُودَ الفَائِدَةُ عَلَى المُجتَمَعِ بِأَسْرِهِ، فَإِنَّ مُجتَمَعًا يَنْشَأُ الأَوْلادُ فِيهِ عَلَى استِقْلالِيَّةِ الفِكْرِ، لا مَكَانَ فِيهِ لأَفْكَارِ التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ، أَوِ التَّسَيُّبِ وَالتَّهَرُّبِ مِنَ المَسْؤُولِيَّاتِ، أَوِ التَّخْرِيبِ وَالمُخَالَفَاتِ، فَلا يَجِدُ فِيهِ المُرْجِفُونَ سَبِيلاً إِلَى قُلُوبِ النَّاسِ، وَلا يَلْقَى المُتَذَمِّرُونَ المُتَخَاذِلُونَ مَنْ يَفْتَحُ لَهُمْ أُذُنَيْهِ، أَوْ يَتَشَرَّبُ أَقَاوِيلَهُمْ وَأَبَاطِيلَهُمْ، وَعِنْدَهَا يَنْدُرُ فِي هَذِهِ البِيئَةِ مَنْ يَرْكَنُ إِلَى الكَسَلِ، أَوْ يَستَنْكِفُ عَنِ العَمَلِ، أَوْ يَسْهَرُ طَوَالَ اللَّيْلِ فِيمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ، وَتَقِلُّ فِيهِ مُخَالَفَاتُ المُرُورِ وَالعَبَثُ بِوَسَائِلِ الاتِّصَالاتِ، فَقَدِ اتَّزَنَتْ أَفْكَارُ الشَّبَابِ وَأَبنَاءِ المُجتَمَعِ، وَارتَقَتْ هِمَمُهُمْ، وَزَادَ وَعْيُهُمْ.
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَنَشِّؤُوا أَوْلادَكُمْ عَلَى الأَفْكَارِ السَّـلِيمَةِ، وَرَبُّوهُمْ عَلَى القِيَمِ النَّبِيلَةِ، تُسَرُّوا بِشَخْصِيَّاتِهِمْ، وَيَسْعَدِ المُجتَمَعُ بِهِمَمِهِمْ وَإِبْدَاعَاتِهِمْ، وَلْنَتَعَاوَنْ مِنْ أَجلِ مُجتَمَعٍ تَسُودُهُ استِقْلالِيَّةُ الفِكْرِ، وَيَنْأَى أَبنَاؤُهُ عَنِ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا: ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ( ).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ: ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ .[/font]
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَأَرشَدَهُ بِالوَحْيِ الحَكِيمِ، وَزَوَّدَهُ عَقْلاً وَفِكْرًا يَهْدِيهِ إِلَى الطَّرِيقِ القَوِيمِ، سُبْحَانَهُ أَوْضَحَ لِبَنِي البَشَرِ مَبْدَأَهُمْ وَمَصِيرَهُمْ، وَائْتَمَنَهُمْ عَلَى سُلُوكِهِمْ وَمَسِيرِهِمْ، أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ بِمَا هُوَ لَهُ أَهْـلٌ مِنَ الحَمْدِ وَأُثْنِي عَلَيْهِ، وَأُومِنُ بِهِ وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، شَرَعَ مِنَ الدِّينِ مَا يَدْعُو إِلَى استِقْلالِ الفِكْرِ وَإِعْمَالِ العَقْلِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ سَيِّدُ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، نَهَى عَنِ التَّبَعِيَّةِ العَمْيَاءِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ إِلَى يَوْمِ الجَزَاءِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَـ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ( )، ثُمَّ اشْكُرُوهُ سُبْحَانَهُ عَلَى أَنْ خَلَقَكُمْ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، وَفَطَرَكُمْ عَلَى الفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ، وَزَوَّدَكُمُ العُقُولَ بِهَا تَستَهْدُونَ، وَفِي خَلْقِ اللهِ بِهَا تَتَفَكَّرُونَ، وَبِهَا فِي طَرِيقِ حَيَاتِكُمْ تَستَنِيرُونَ، يَقُولُ عَزَّ قَائِلاً حَكِيمًا: ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺﭻ ﭼ ﭽ ﭾ( )، إِنَّ هَذِهِ الحَوَاسَّ وَالمَلَكَاتِ إِنَّمَا وَهَبَنَا اللهُ إِيَّاهَا لِنَغتَنِمَهَا مِنْ أَجلِ حَيَاةٍ أَفْضَلَ، وَطَرِيقٍ أَمثَلَ، وَقَدْ نَعَى القُرآنُ الكَرِيمُ عَلَى الَّذِينَ يُعَطِّلُونَ حَوَاسَّهُمْ وَعُقُولَهُمْ أَمْرَهُمْ هَذَا، فَقَالَ: ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ( )، وَلِذَا استَنْهَضَ الإِسْلامُ العُقُولَ، وَوَجَّهَ الأَفْهَامَ، وَأَيقَظَ الحَوَاسَّ، وَنَبَّهَ المَشَاعِرَ، وَحَرَّرَ الإِنْسَانَ مِنْ أَغْلالِ التَّقْلِيدِ، وَسَيْطَرَةِ التَّبَعِيَّةِ العَمْيَاءِ، وَرَبَّاهُ عَلَى حُرِّيَّةِ الفِكْرِ، وَاستِقْلالِ الإِرَادَةِ، لِيَكْمُلَ بِذَلِكَ عَقْلُهُ، وَيَستَقِيمَ تَفْكِيرُهُ، وَتَكْتَمِلَ لَهُ شَخْصِيَّـتُهُ وَإِنْسَانِيَّـتُهُ، فَإِنَّ كَمَالَ العَقْلِ، وَسَلامَةَ التَّفْكِيرِ، وَاستِقْلالَ الإِرَادَةِ، هِيَ أُسُسُ صِحَّةِ الأَفْكَارِ، وَاستِقَامَةِ السُّلُوكِ، وَرُقِيِّ الأَخْلاقِ، وَمَعْرِفَةِ الحَقِّ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُتَّبَعَ، وَمَعْرِفَةِ البَاطِلِ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُجتَنَبَ، وَفِي الأَثَرِ: ((مَا اكْتَسَبَ رَجُلٌ مِثْلَ عَقْلٍ، يَهْدِي صَاحِبَهُ إِلَى هُدًى، وَيَرُدُّهُ عَنْ ضَلالٍ))، إِنَّ عَالَمَ اليَوْمِ لَيَمُوجُ بِأَفْكَارٍ وَثَقَافَاتٍ مُختَلِفَةٍ، وَحَضَارَاتٍ وَاتِّجَاهَاتٍ مُتَدَاخِلَةٍ، بِفِعْلِ الانْفِتَاحِ الثَّقَافِيِّ، وَتَعَدُّدِ الوَسَائِلِ الإِعْلامِيَّةِ، وَسُهُولَةِ الاتِّصَالِ وَالتَّوَاصُلِ، وَهَذَا يَجْعَلُ الطُّرُقَ أَمَامَ الإِنْسَانِ مُتَشَعِّـبَةً، وَالأَفْكَارَ وَالرُّؤَى مُتَبَايِنَةً، وَقَدْ بَيَّنَ اللهُ سُبْحَانَهُ لَنَا طَرِيقَ الإِيْمَانِ وَالهِدَايَةِ، وَتِلْكَ حِكْمَةٌ مِنَ اللهِ؛ لِيَخْتَارَ الإِنْسَانُ دَرْبَهُ، وَيَتَحَمَّـلَ مَسْؤُولِيَّةَ اتِّجَاهِهِ، وَإِنَّ العَاقِلَ هُوَ مَنْ يَتَّخِذُ الدَّرْبَ الَّتِي يَرَى فِيهَا مَصلَحَتَهُ الحَقِيقِيَّـةَ، وَمَا يُحَقِّقُ لَهُ الحَيَاةَ الطَّيِّـبَةَ، وَيَكْفُلُ لِمُجتَمَعِهِ الأَمْنَ وَالسَّلامَ، وَيَأْمُلُ فِيهِ لأُمَّـتِهِ وَوَطَنِهِ الخَيْرَ وَالتَّقَدُّمَ إِلَى الأَمَامِ، فَكَيْفَ يُكْتَبُ لَهُ النَّجَاحُ؟ وَكَيْفَ يَجتَازُ الامتِحَانَ؟ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنَ الفِكْرِ السَّلِيمِ مَا يَهتَدِي بِهِ، وَمِنَ الاستِقْلالِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ مَا يُحَدِّدُ لَهُ الدَّرْبَ السَّوِيَّ؟
عِبَادَ اللهِ:
لَقَدْ حَذَّرَ الإِسْلامُ الحَنِيفُ مِنَ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ( )، إِنَّ مَسلَكَ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى يَنْفِي احتِرَامَ النَّفْسِ البَشَرِيَّةِ، وَتَقْدِيرَ الذَّاتِ الإِنْسَانِيَّةِ، فَالمُقَلِّدُ يُعَطِّلُ عَقْلَهُ الَّذِي وَهَبَهُ اللهُ إِيَّاهُ، ثُمَّ يَذُوبُ فِي شَخْصِيَّاتِ الآخَرِينَ وَأَفْكَارِهِمْ، وَهَذَا هُوَ الإِمَّعَةُ الَّذِي لا هُوِيَّةَ لَهُ وَلا شَخْصِيَّةَ، يَقُولُ المُصْطَفَى : ((لا يَكُنْ أَحَدُكُمْ إِمَّعَةً؛ يَقُولُ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنْتُ وَإِنْ أَسَاؤُوا أَسَأْتُ، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاؤُوا فَلا تَظْلِمُوا))، فَمَا بَالُ بَعْضِ النَّاسِ يَتَّخِذُونَ التَّقْلِيدَ لَهُمْ مَنْهَجًا، وَالتَّبَعِيَّةَ طَرِيقًا وَمَسلَكًا؟ أَمَا يَرْغَبُونَ فِي استِقْلالِ شَخْصِيَّاتِهِمْ؟ أَمَا يُحِبُّونَ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ كِيَانُهُمْ وَإِبْدَاعُهُمْ؟ لِمَاذَا يُعَطِّلُونَ عُقُولَهُمْ وَيَدفِنُونَ قُدُرَاتِهِمْ؟ وَإِنْ شِئْنَا لَهُمُ اللَّومَ وَالعِتَابَ، فَإِنَّا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ وَرَاءَ مَسلَكِهِمْ دَوَاعِيَ وَأَسْبَابًا، وَمِنْ بَينِهَا الفَرَاغُ، وَغِيَابُ القُدْوَةِ، وَلَيْتَ شِعْرِي كَيْفَ تَعْرِفُ حَيَاةُ المُؤْمِنِ طَرِيقَ الفَرَاغِ، وَإِيْمَانُهُ يَدْعُوهُ إِلَى اغْتِنَامِ أَوقَاتِهِ، وَتَنْمِيَةِ أَفْكَارِهِ؟ أَمْ كَيْفَ يَستَسِيغُ المُوَاطِنُ الصَّالِحُ أَنْ يَبقَى بِلا عَمَلٍ وَقَدْ فُتِحَتْ لَهُ آفَاقُهُ وَمَجَالاتُهُ؟ إِنَّ الشَّابَّ الوَاعِيَ حِينَ يَعْرِفُ قِيمَةَ الحَيَاةِ، وَيُدْرِكُ قِصَرَهَا وَسُرْعَةَ انقِضَائِهَا، لا يَرتَضِي لِنَفْسِهِ أَنْ تَذْهَبَ أَوقَاتُهُ هَدْرًا، وَسَاعَاتُهُ سُدًى، حَتَّى لا يَفْتَرِسَهُ الفَرَاغُ، وَتَأْكُلَهُ الهُمُومُ، وَتُسَيْطِرَ عَلَيْهِ الوَسَاوِسُ، وَتُحِيطَ بِهِ الظُّنُونُ، ثُمَّ يَبْحَثَ عَنْ مُتَنَفَّسٍ وَمَخْرَجٍ، فَيَرْمِيَ نَفْسَهُ فِي مُخْتَلَفِ الطُّرُقِ وَالدُّرُوبِ، يُجَرِّبُ المَسَالِكَ، وَيَتَشَرَّبُ أَنْوَاعَ الأَفْكَارِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُوَطِّنَ نَفْسَهُ عَلَى هَدَفٍ يَرْجُو مِنْ وَرَائِهِ النَّفْعَ لَهُ وَلأُمَّـتِهِ، وَيَسْعَى إِلَيْهِ عَلَى وَفْقِ خُطَّةٍ وَاضِحَةٍ، وَدَرْبٍ مَرْسُومٍ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ:
إِنَّ المُؤْمِنَ وَهُوَ يَسْعَى إِلَى فِكْرٍ مُتَّزِنٍ مُستَقِلٍّ، يُدْرِكُ تَمَامَ الإِدْرَاكِ أَنَّ العِلْمَ مِفْتَاحُ استِقْلالِ الفِكْرِ وَاتِّزَانِ التَّصَوُّرِ، فَالجَاهِلُ مُضْطَرٌّ إِلَى التَّقْلِيدِ، مُفْتَقِرٌ إِلَى الاتِّباعِ الدَّائمِ، لَيْسَ لَهُ مِنَ العِلْمِ وَالمَعْرِفَةِ مَا يُوَضِّحُ لَهُ السَّبِيلَ وَيَهْدِيهِ الطَّرِيقَ، وَلِذَا نَجِدُ القُرآنَ الكَرِيمَ يَجْعَلُ أَهلَ العِلْمِ هُمْ أَهلَ الشَّهَادَةِ لَهُ بِالوَحْدَانِيَّةِ، إِذْ هُمْ أَبْصَرُ بِالدَّرْبِ السَّوِيِّ، وَهُمْ أَقْدَرُ عَلَى الاتِّزَانِ وَالاستِقْلالِيَّةِ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ وَعَلا: ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ( )، إِنَّ الرَّجُلَ الوَاعِيَ يَسْعَى إِلَى المَعلُومَةِ مِنْ مَصَادِرِها، وَيَطْلُبُ العِلْمَ مِنْ مَظَانِّهِ، يَأْخُذُ مَسَائِلَ الدِّينِ مِنَ العَالِمِينَ بِهِ، وَالتَّعلِيمَاتِ الصِّحِّـيَّةَ مِنْ أَهلِ الطِّبِّ، وَقَضَايَا المَالِ مِنْ أَهلِ الاقْتِصَادِ حَتَّى يُكَوِّنَ لَهُ حَصِيلَةً عِلْمِيَّةً، وَرَصِيدًا ثَقَافِيًّا، يُكْسِبُهُ استِقْلالاً فِي الفِكْرِ، وَيَمنَحُهُ ثِقَةً بِالنَّفْسِ تَحُولُ دُونَ اتِّبَاعِ سَرَابِ الشِّعَارَاتِ، فَتَجِدُهُ يُوَطِّنُ نَفْسَهُ فِي مُخْتَلَفِ الأَحْوَالِ، وَيَستَطِيعُ اتِّخَاذَ قَرَارِهِ فِي أَحلَكِ الظُّرُوفِ وَالمَوَاقِفِ، وَهَذَا شَأْنُ المَشْيِ السَّوِيِّ، وَالدَّرْبِ الوَاضِحِ الجَلِيِّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّخَبُّطِ بَوْنٌ شَاسِعٌ، وَأَنْتُمْ تَقْرَؤُونَ فِي كِتَابِ اللهِ قَولَ البَارِي جَلَّ فِي عُلاهُ: ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ( )، نَعَمْ، تَجِدُ صَاحِبَ العِلْمِ مُستَقِلَّ الفِكْرِ، وَاثِقَ الخُطَى، لا يَكْتَرِثُ لِلأَرَاجِيفِ، وَلا يَلْتَفِتُ إِلى الشَّائِعَاتِ، لا يُؤَثِّرُ فِيهِ كَسَلُ المُتَخَاذِلِينَ، وَلا حَمَاسَةُ المُنْدَفِعِينَ، وَلا غُلُوُّ المُتَنَطِّعِينَ، إِنَّمَا هُوَ فُرْدٌ مِنْ أُمَّةٍ جَعَلَهَا اللهُ وَسَطًا فِي أُمُورِهَا، وَأَمَرَهَا بِالرِّفْقِ فِي تَعَامُلاتِهَا، يَضَعُ نُصْبَ عَينَيْهِ قَولَ النَّبِيِّ : ((إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ؛ فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ))، وَيَستَضِيءُ فِي اجتِهَادِهِ وَهِمَّـتِهِ بِهَدْيِ المُصْطَفَى - صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلامُهُ عَلَيْهِ - حِيْنَ قَالَ: ((استَعِنْ بِاللهِ وَلا تَعْجِزْ)).
إِخْوَةَ الإِيْمَانِ:
إِنَّ استِقْلالِيَّةَ الفِكْرِ لا تَعْنِي أَنْ يَركَبَ المَرْءُ هَوَاهُ، أَوْ أَنْ يَجْعَلَ عَقْلَهُ حَكَمًا فِي كُلِّ أَمْرٍ، فَإِنَّ العَقْلَ البَشَرِيَّ يَظَلُّ قَاصِرًا، وَالأَفْهَامَ تَتَفَاوَتُ، وَالرُّؤَى وَالتَّصَوُّرَاتِ تَخْتَلِفُ، وَلَوْ تُرِكَتِ الأَحْكَامُ لِلْعُقُولِ وَالأَفْهَامِ، لَتَخَبَّطَ النَّاسُ كُلٌّ عَلَى تَصَوُّرِهِ وَفَهْمِهِ، وَمَا نَزَلَتْ شَرَائِعُ، وَلا سُنَّتْ قَوَانِينُ، وَإِنَّمَا العَقْلُ دَلِيلٌ إِلَى اتِّبَاعِ الحَقِّ، وَاقْتِفَاءِ الصَّوَابِ، وَالتَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّافِعِ وَالضَّارِّ، وَبَيْنَ القَولِ الثَّابِتِ وَمَا عَدَاهُ مِنْ شَائِعَاتٍ وَأَبَاطِيلَ، وَبَيْنَ اتِّبَاعِ الهَوَى وَالعَمَلِ وَفْقَ الأَنْظِمَةِ الَّتِي مَا شُرِعَتْ إِلاَّ لِلْمَصلَحَةِ وَالمَنْفَعَةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ( ).
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَاجْعَلُوا عُقُولَكُمْ قَائِدًا نَحْوَ الحَقِيقَةِ وَالصَّوَابِ، نَائِيًا بِكُمْ عَنْ كُلِّ مَا فِيهِ شَكٌّ وَارتِيَابٌ، وَاربَؤُوا بِأَنْفُسِكُمْ عَنْ مَزَالِقِ الهَوَى، أَوِ اتِّبَاعِ الشَّائِعَاتِ، وَعَلَيْكُمْ بِالعِلْمِ وَالتَّبَصُّرِ، فَإِنَّ المُؤْمِنَ الحَقَّ لا تَغُرُّهُ المَظَاهِرُ وَالشِّعَارَاتُ، إِنَّمَا غَايَتُهُ الجَوْهَرُ وَالمَضْمُونُ، وَمَا فِيهِ الخَيْرُ وَالمَنْفَعَةُ.
أقُولُ قَوْلي هَذَا وَأسْتغْفِرُ اللهَ العَظِيمَ لي وَلَكُمْ، فَاسْتغْفِرُوهُ يَغْفِرْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَادْعُوهُ يَسْتجِبْ لَكُمْ إِنهُ هُوَ البَرُّ الكَرِيْمُ.
*** *** ***
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَالعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَلا عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ إِمَامُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَأَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ أَجْمَعِينَ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ الغُرِّ المَيَامِينِ، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِ وَتَرَسَّمَ خُطَاهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ، فَيَا عِبَادَ اللهِ:
مَا أَرْوَعَ أَنْ نَرَى أَبنَاءَنَا أَصْحَابَ فِكْرٍ مُستَقِلٍّ، وَتَصَوُّرَاتٍ مُتَّزِنَةٍ، يَمشُونَ ثَابِتِي الخَطَواتِ، بَعِيدِي العَثَرَاتِ، وَهَنِيئًا لِوَطَنٍ عَزِيزٍ يَجِدُ شَبَابَهُ اتَّخَذُوا مَسلَكًا وَاضِحًا، وَدَرْبًا سَوِيًّا بَيِّنًا، فَيَضَعُ فِيهِمْ رَجَاءَهُ، وَيَحُطُّ عِنْدَهُمْ رِحَالَ آمَالِهِ، وَلَكِنْ هَلْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ الكَلامِ؟ وَهَلْ يُبنَى الإِنْسَانُ بِالآمَالِ وَالأَحْلامِ؟ كَلا وَمَا ذَاكَ بِخَافٍ عَلَيكُمْ، وَقَدْ قَرَأْتُمْ قَولَ الحَقِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ( )، نَعَمْ فَالهِدَايَةُ وَالتَّوفِيقُ مَنَاطُهُمَا الاجتِهَادُ وَالتَّضْحِيَةُ، وَلا بُدَّ مِنْ تَضَافُرِ الجُهُودِ، حَتَّى يُؤْتِيَ الثَّمَرَةَ المَجْهُودُ، بَدْءًا بِالتَّنْشِئَةِ الأُسْرِيَّةِ السَّوِيَّةِ، فَهِيَ عِمَادُ الاستِقْلالِيَّةِ الفِكْرِيَّةِ، فَالطِّفلُ يُولَدُ فِينَا صَفْحَةً بَيْضَاءَ نَاصِعَةً، تَنْتَظِرُ مَنْ يَخُطُّ بَيْنَ جَنَبَاتِهَا الأَفْكَارَ السَّـلِيمَةَ، وَالتَّصَوُّرَاتِ الصَّحِيحَةَ، وَهَذِهِ مَسْؤُولِيَّةٌ وَأَمَانَةٌ فِي عُنُقِ أُسْرَتِهِ بِالدَّرَجَةِ الأُولَى، فَأَكْرِمْ بِأَبٍ وَأُمٍّ جَعَلا لأَوْلادِهِمَا نَصِيبًا وَافِرًا مِنْ جُهْدِهِمَا، وَضَحَّيَا لَهُمْ بِجُزْءٍ مِنْ وَقْتِهِمَا، فَيَجِدُ الأَوْلادُ مَنْ يُحَاوِرُهُمْ وَيُنَاقِشُهُمْ، وَيُتَابِعُ أَفْكَارَهُمْ، وَنَظْرَتَهُمْ فِي الحَيَاةِ، وَتَطَلُّعَاتِهِمْ وَآمَالَهُمْ، وَيَنْظُرُ فِي أُسْوَتِهِمْ، بَلْ يَكُونُ هُوَ قُدْوَتَهُمْ، بِالمُسَارَعَةِ إِلَى البِرِّ، وَالسَّبْـقِ إِلَى كُلِّ مَا فِيهِ المَنْفَعَةُ وَالخَيْرُ، حَتَّى يُصَدِّقَ القَولَ العَمَلُ، وَيَرَوا فِي شَخْصِيَّةِ أَبِيهِمْ وَنَجَاحِ أُمِّهِمْ مَا يُشَجِّعُهُمْ عَلَى الاقْتِدَاءِ وَالتَّأَسِّي، وَإِلاَّ دَفَعَتْهُمُ الحَاجَةُ إِلَى الأُسْوَةِ وَالقُدْوَةِ، إِلَى التَّقْلِيدِ الأَعْمَى، فَيَنْشَؤُونَ عَلَى التَّشَتُّتِ وَالتَّخَبُّطِ، يَحْمِلُونَ كُلَّ يَوْمٍ فِكْرَةً جَدِيدَةً، ثُمَّ يُلْقَى عَلَيْهِمُ اللَّوْمُ وَالعِتَابُ: كَيْفَ تَشَرَّبْـتُمْ هَذِهِ الأَفْكَارَ؟ فَهَلاَّ أَدْرَكَ الآبَاءُ عِظَمَ هَذِهِ الأَمَانَةِ، وَهَلاَّ أَعَانَهُمْ فِي ذَلِكَ بَاقِي المُرَبِّينَ، فِي المَدَارِسِ وَالجَامِعَاتِ وَغَيْرِهَا، فَهَذِهِ مَسْؤُولِيَّةُ الجَمِيعِ، لِتَعُودَ الفَائِدَةُ عَلَى المُجتَمَعِ بِأَسْرِهِ، فَإِنَّ مُجتَمَعًا يَنْشَأُ الأَوْلادُ فِيهِ عَلَى استِقْلالِيَّةِ الفِكْرِ، لا مَكَانَ فِيهِ لأَفْكَارِ التَّشَدُّدِ وَالتَّنَطُّعِ، أَوِ التَّسَيُّبِ وَالتَّهَرُّبِ مِنَ المَسْؤُولِيَّاتِ، أَوِ التَّخْرِيبِ وَالمُخَالَفَاتِ، فَلا يَجِدُ فِيهِ المُرْجِفُونَ سَبِيلاً إِلَى قُلُوبِ النَّاسِ، وَلا يَلْقَى المُتَذَمِّرُونَ المُتَخَاذِلُونَ مَنْ يَفْتَحُ لَهُمْ أُذُنَيْهِ، أَوْ يَتَشَرَّبُ أَقَاوِيلَهُمْ وَأَبَاطِيلَهُمْ، وَعِنْدَهَا يَنْدُرُ فِي هَذِهِ البِيئَةِ مَنْ يَرْكَنُ إِلَى الكَسَلِ، أَوْ يَستَنْكِفُ عَنِ العَمَلِ، أَوْ يَسْهَرُ طَوَالَ اللَّيْلِ فِيمَا لا فَائِدَةَ فِيهِ، وَتَقِلُّ فِيهِ مُخَالَفَاتُ المُرُورِ وَالعَبَثُ بِوَسَائِلِ الاتِّصَالاتِ، فَقَدِ اتَّزَنَتْ أَفْكَارُ الشَّبَابِ وَأَبنَاءِ المُجتَمَعِ، وَارتَقَتْ هِمَمُهُمْ، وَزَادَ وَعْيُهُمْ.
فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ -، وَنَشِّؤُوا أَوْلادَكُمْ عَلَى الأَفْكَارِ السَّـلِيمَةِ، وَرَبُّوهُمْ عَلَى القِيَمِ النَّبِيلَةِ، تُسَرُّوا بِشَخْصِيَّاتِهِمْ، وَيَسْعَدِ المُجتَمَعُ بِهِمَمِهِمْ وَإِبْدَاعَاتِهِمْ، وَلْنَتَعَاوَنْ مِنْ أَجلِ مُجتَمَعٍ تَسُودُهُ استِقْلالِيَّةُ الفِكْرِ، وَيَنْأَى أَبنَاؤُهُ عَنِ التَّقْلِيدِ الأَعْمَى.
هَذَا وَصَلُّوْا وَسَلِّمُوْا عَلَى إِمَامِ الْمُرْسَلِيْنَ، وَقَائِدِ الْغُرِّ الْمُحَجَّلِيْنَ، فَقَدْ أَمَرَكُمُ اللهُ تَعَالَى بِالصَّلاَةِ وَالسَّلاَمِ عَلَيْهِ فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ حَيْثُ قَالَ عَزَّ قَائِلاً عَلِيْمًا: ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ( ).
اللَّهُمَّ صَلِّ وسَلِّمْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ وسَلّمْتَ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، وَبَارِكْ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، كَمَا بَارَكْتَ عَلَى سَيِّدِنَا إِبْرَاهِيْمَ وَعَلَى آلِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيْمَ، فِي العَالَمِيْنَ إِنَّكَ حَمِيْدٌ مَجِيْدٌ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنْ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِيْنَ، وَعَنْ أَزْوَاجِهِ أُمَّهَاتِ المُؤْمِنِيْنَ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِيْنَ، وَعَنْ المُؤْمِنِيْنَ وَالمُؤْمِنَاتِ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ، وَعَنَّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْ جَمْعَنَا هَذَا جَمْعًا مَرْحُوْمًا، وَاجْعَلْ تَفَرُّقَنَا مِنْ بَعْدِهِ تَفَرُّقًا مَعْصُوْمًا، وَلا تَدَعْ فِيْنَا وَلا مَعَنَا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كُلاًّ مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا ذَاكِرًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا مُنِيْبًا، وَعَمَلاً صَالِحًا زَاكِيًا، وَعِلْمًا نَافِعًا رَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا ثَابِتًا، وَيَقِيْنًا صَادِقًا خَالِصًا، وَرِزْقًا حَلاَلاًَ طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِيْنَ، وَوَحِّدِ اللَّهُمَّ صُفُوْفَهُمْ، وَأَجْمِعْ كَلِمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ. اللَّهُمَّ رَبَّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعِزَّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.
اللَّهُمَّ رَبَّنَا اسْقِنَا مِنْ فَيْضِكَ الْمِدْرَارِ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الذَّاكِرِيْنَ لَكَ في اللَيْلِ وَالنَّهَارِ، الْمُسْتَغْفِرِيْنَ لَكَ بِالْعَشِيِّ وَالأَسْحَارِ.
اللَّهُمَّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعِنَا وكُلِّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوْبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُوْنَنَّ مِنَ الخَاسِرِيْنَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِيْنَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَالْمُسْلِمِيْنَ وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، إِنَّكَ سَمِيْعٌ قَرِيْبٌ مُجِيْبُ الدُّعَاءِ.
عِبَادَ اللهِ: ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇﮈ ﮉ ﮊ ﮋ .[/font]